شأن الدعاء عظيم، ونفعه عميم، ومكانته عالية في الدين، فما استجلبت النعم بمثله ولا استدفعت النقم بمثله، ذلك أنه يتضمن توحيد الله، وإفراده بالعبادة دون من سواه، وهذا رأس الأمر، وأصل الدين.
فإلى صاحب الحاجة .. إلى الذي أصابته اللأواء، وأضرت به الأدواء، ويئس من الشفاء بعد أن تعاطى ما يعلم من دواء، وإلى من ركبته الديون، ولاحقته من أهلها العيون، فلم تهدأ له جفون، وأصبح في كل حين ينتظر المنون، ويراه خير ما يكون مما يلجأ إليه صاحب الديون، وإلى من أغلقت في وجهه الأبواب، وتجمعت في طريقه الصعاب، وسدت عليه الطرق فلا ذهاب ولا إياب، وتركه الأصحاب والأحباب، وبات في همٍٍّ واكتئاب، وقلقٍ واضطراب، لا يعرف سوى عبارة "متى أرتاح تحت التراب".
إلى الذي يئن من المعاصي والذنوب، وكل يوم يقول: أريد أن أتوب، قد تضجر من التخبط في الدروب.
إلى الذي يرجو جنة عرضها الأرض والسماوات، ويتمنى عفو رب البريات، ويهفو إلى ما أعد الله لأهل الطاعات.
إلى هؤلاء جميعاً ومن سواهم من أهل الحاجات نزفُّ إليهم قول الله - عز وجل -: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ}1، بل وأعظم من ذلك نذكرهم بمكانة الدعاء في شهر الرحمة والمغفرة، فإن شهرَ رمضانَ فرصةٌ سانحة، ومناسبة كريمة مباركة؛ يتقرب فيها العبد إلى ربه بسائر القربات، وعلى رأسها الدعاء؛ ذلكم أن مواطن الدعاء، ومظانَّ الإجابة؛ تكثر في هذا الشهر؛ فلا غَرْوَ أن يُكْثِر المسلمون فيه من الدعاء.
ولعل هذا هو السر في ختم آيات الصيام بالحثّ على الدعاء حيث يقول ربنا - عز وجل -: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}2، فما أجمل أن يستغل هذه الفرصة من كانت لدية حاجة عند ربه - تعالى -، ولم تقض بعد.
ولكي يحسن استغلال هذه الغنيمة سنقف بعض الوقفات اليسيرة مع مفهوم الدعاء، وفضله، وشيئاً مما يتعلق به:
"فالدعاء هو أن يطلبَ الداعي ما ينفعُه ويكشف ضُرَّه؛ وحقيقته إظهار الافتقار إلى الله، والتبرؤ من الحول والقوة، وهو سمةُ العبوديةِ، واستشعارُ الذلةِ البشرية، وفيه معنى الثناءِ على الله - عز وجل -، وإضافةِ الجود والكرم إليه"3.
والدعاء هو العبادة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ))، وهو مما يقوي جانب العبودية للعبد تجاه ربه قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وكلّما قوي طمع العبد في فضل الله، ورحمته، لقضاء حاجته، ودفع ضرورته؛ قويت عبوديتُه له، وحريته مما سواه؛ فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديتَه له؛ فَيأْسُهُ منه يوجب غنى قلبه عنه"4، وهو أيضاً سبب لدفع غضب الله قال - صلى الله عليه وسلم -: 5.
لا تسألـن بني آدم حاجـةً وسل الذي أبوابه لا تحجبب
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
والدعاء في رمضان له أحوال ينبغي أن يحرص عليها من أدرك رمضان منها:
1- دعاء القنوت: فشهر رمضان شهر تتجه فيه القلوب إلى باريها، وتلح فيه بالدعاء، وتعج المساجد بالقنوت في الوتر ترفع حاجاتها إلى الله.
2- في السجود: ففي رمضان يكثر السجود لكثرة الصلوات، فإن فيه مع الفرائض والرواتب صلاة التراويح، و6..
3- عند إحياء الليل: ويكثر في رمضان إحياء الليل، وهو من مظان الإجابة فعن عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر؛ فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن))7، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ينزل ربنا - تبارك وتعالى - كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له))8.
4- الدعاء عند ليلة القدر: فقد سألت عائشة - رضي الله عنها - رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أدعو؟ قال: ((تقولين: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني))9.
5- دعاء الصائم والدعاء وقت الإفطار: فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر))10.
هذه بعض الأوقات التي يستحب للمسلم فيها أن يدعو الله - تعالى - ويسأله، وأن يحرص على الأخذ بآداب الدعاء التي تزيد في أجره، وتغلب إجابته، ومن ذلك:
1- أن يخلص العبد في دعائه لله - تعالى - فلا يدعو معه أحداً، بل يدعوه وحده لا شريك له كما أمر الله بذلك: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}11، فدعاء غير الله وسؤاله كدعاء الأموات مثلاً أو الأحياء؛ شرك تحبط به الأعمال، ويجنى به غضب الله الواحد القهار.
2- الدعاء بالخير والبعد عن الإثم وقطيعة الرحم والاستعجال.
3- ومنها حسن الظن بالله - تعالى - فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة))12.
4- ومن الأسباب المهمة التي تحصل بها إجابة الدعاء إطابة المأكل والمشرب والملبس كما في الحديث: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب لذلك))13.
5- من الأسباب أيضاً: تحري الأماكن والأوقات الفاضلة في إجابة الدعاء، وذلك نحو: الدعاء في شهر رمضان عامة، وفي ليلة القدر خاصة، وفي جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات، وبين الأذان والإقامة، وساعة من كل ليلة، وعند النداء للصلوات المكتوبة، وعند نزول الغيث، وعند زحف الصفوف في سبيل الله، وساعة من يوم الجمعة (وأرجح الأقوال فيها أنها آخر ساعة من ساعات العصر يوم الجمعة، وقد تكون ساعة الخطبة والصلاة)، وعند شرب ماء زمزم مع النية الصادقة، وفي السجود، والدعاء حالة إقبال القلب على الله، واشتداد الإخلاص، والمؤمن يدعو ربه دائماً أينما كان لكن هذه الأوقات والأحوال، والأماكن تخص بمزيد عناية14.
تقبل الله منا صلاتنا وصيامنا ودعاءنا، وأصلح أحوالنا، وغفر ذنبنا، وستر عيوبنا، وجعلنا في هذا الشهر من الفائزين، واعتقنا فيه من نار الجحيم، وأسكننا برحمته جنات النعيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
شكرا جزيلا