شهر رمضان هو شهر كريم، يغدق فيه على أهل الإيمان بالفضائل والمكرمات، ليتنافس فيه أهل الطاعات والقربات، ويعزمون فيه على فعل كل رشيد، فترى الكثير من المسلمين ممن يصوم نهار رمضان يجتهد فيه بالطاعات، فحيناً تالياً للقرآن، وحيناً ذاكراً لله - عز وجل - يدعوه ويستغفره، وحيناً ثالثة في بر وفعل للخير، والسعي لتفطير الصائمين إذا اقترب موعد الإفطار، وكل هذا من توفيق الله - تعالى - لهذا العبد، وهو علامة على إيمانه وصلاحه، لكن العجب كل العجب أن مثل هذه المظاهر من الأعمال الصالحة تتلاشى كلما اشتدت الظلمة، وأرخى الليل سدوله، فتجد الحريص هو من يصلي بعد العشاء التراويح، ثم ماذا؟ هذا هو السؤال الذي نريد أن نقف معه قليلاً في هذا المقام.
ماذا يفعل الكثير في الساعات المتأخرة من ليل رمضان؟ ماذا يفعل كبار السن؟ والشباب؟ وماذا تفعل النساء والفتيات؟
هذه تساؤلات لابد أن نصارح أنفسنا ونحن نجيب عليها، أين نحن في الثلث الأخير من الليل في شهر رمضان؟
لعلك تبادر بجواب تتكلم فيه عن حالة أو حالتين، لكن نريد أن نعرف حال الأكثر من أهل الإسلام، نريد أن نعرف حال الكثير ممن ضيعوا فرصاً عظيمة في شهر الرحمات، و العتق من النار.
من المسلمين من يقطعون ليالي رمضان بالسهر القاتل الذي كثر فيه الكلام عن الدنيا، والحديث عن العادات والتقاليد، وذكر فلان وعلان، والله يقول: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}1.
وآخرون يقطعون الليل أمام الشاشات، فرمضان عندهم موسم للفوازير والمسابقات، والجديد من الأفلام والمسلسلات، وما دخل في مضمار التنافس على الجنات والله - تعالى - يقول: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}2.
وتجد من رجال ونساء المسلمين من لا يعرف رمضان إلا بالأسواق، فتراه إليها سباق، وهو إليها مشتاق، وينسى هنالك أنه عن وقته مسؤول، وأنه بالنظر الحرام قد فعل ما يتلف العقول، وخالف وعصى أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
إن الساعات المتأخرة من الليل هي ساعات مخصوصة بفضائل عظيمة في كل وقت من العام، فكيف إذا كانت في رمضان، فهي ساعات النزول الإلهي كما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما عند البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((ينزل ربنا - تبارك وتعالى - كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له))3.
أنها ساعات استجابة الدعاء، ساعات الأعطيات، والمغفرة من رب البريات، إنها ساعات الأسحار.
الساعات التي علمها المتقون فبادروا إليها {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}4.
فأين أصحاب الحاجات؟ وأين أصحاب الأمراض والأسقام؟ أين التائبون؟ وأصحاب الديون؟ ألا يستيقظون، ألا لمثل هذه الساعات يتنبهون!
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا وقمت أشكو إلى مولاي مـا أجـد
وقلت يا عُدتي فـي كـل نائبــة ومـن عليـه لكشف الضـر أعتمد
أشكو إليك أمـوراً أنـت تعلمهـا مــالي على حملها صبرٌ ولا جلـدُ
وقد مددت يـدي بالـذل مبتهـلاً إليك يا خير من مُـدتْ إليـه يـد
فـلا تردَّنَّهـا يـا رب خائـبـةً فبحر جودك يروي كل مـا يـردُ
جاء عن جابر - رضي الله عنه - قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة))5.
ألم يقل الله - جل شأنه - في كتابه الكريم بين آيات الصيام: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}6.
فإلى كل من أدرك رمضان .. الله الله في دعاء الأسحار، احذر أنه تسرقه منك القنوات، إياك أن تخطفه من بين يديك الأسواق، لا يذهبن ليلك إلا وقد ناجيت ملك الملوك الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، الذي بيده خزائن السماوات والأرض، الذي يقول في الحديث القدسي: ((... يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً؛ فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم؛ كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم؛ كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم؛ قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر))7.
ألست تريد الهداية؟ ألست تريد أن يتوب الله عليك؟ ألست تتمنى أن يصلح الله دنياك وآخرتك؟ ألا ترجو أن يغفر الله ذنبك؟ ألست تسعى لأن يقضى دينك؟ أولست تفكر في الفردوس الأعلى؟ إذاً عليك بالأسحار.
اللهم يا مجيب الدعاء استجب دعاءنا، وتقبل أعمالنا، وبارك لنا في أعمارنا، ووفقنا لدعوة مستجابة تغفر بها ذنوبنا، وتصلح بها قلوبنا، وتقضي بها ديوننا .. اللهم آمين.
شكرا جزيلا